الخميس، 26 مارس 2009

البطالة والحلول الناقصة

البطالة والحلول الناقصة
ترتبط معالجة أي مشكلة بمدى القدرة على تشخيصها ومعرفة أسبابها وأبعادها المختلفة، فمتى ما كان التشخيص دقيقاً وواضحاً فإن المعالجة غالبا ما تؤدي إلى الحلول الناجعة، ومثلما أن الطبيب لا يستطيع أن يعالج المريض دون تشخيص دقيق ومعاينة كاملة فإن المشاكل التنظيمية والإدارية هي الأخرى يصعب علاجها وإيجاد الحلول المناسبة لها دون أن تحدد طبيعتها وتعرف أسبابها ومؤثراتها المختلفة، وإلا فإن المعالجات مهما بلغ تلميعها إعلاميا تظل ناقصة وأشبه ما تكون بالمسكنات التي تزيل الإحساس بالألم لكنها لا تستأصل الورم أو تجتثه أو حتى تعمل على تحجيمه وتقليص مساحته..هذا الكلام ينطبق على كثير من المشاكل والمعضلات الاقتصادية والاجتماعية والتنظيمية في مجتمعنا، فالملاحظ أن المعالجات والإجراءات التي تتخذها وتعمل عليها القطاعات الحكومية المعنية لمواجهة مكامن الخلل ومواقع القصور في القضايا والمواضيع المرتبطة بمهامها تمضي دون أن تنتهي إلى علاج المشكلة أو تحجيمها، بل إنها في كثير من الأحيان تحجب الرؤية عن عمق هذه المشاكل ودرجة استفحالها، وتوهم من هم خارج القطاع أن المشكلة انتهت أو على أقل تقدير في طريقها إلى الحل، وما إن يتغير المسؤول الأول عن هذه الجهة أو تلك إلا وينكشف المستور ويبدأ الحديث من جديد عن نفس المشكلة وتداعياتها وآثارها السلبية ومعه يبدأ الحديث عن إجراءات ومعالجات جديدة غالبا ما تحمل صفة التطوير، والمفردة الأخيرة أصبحت " تكية " يتكئ عليها بعض المسؤولين في القطاعات الحكومية ويمررون من خلالها برامجهم أو بالأحرى تجاربهم وتطبيقاتهم القائمة على الاجتهادات والخطط الارتجالية.
من هذه المشاكل مشكلة توظيف السعوديين في القطاع الخاص أو بشكل أدق إيجاد الفرص الوظيفية القادرة على استيعاب التزايد المستمر في قوة العمل المحلية، فمع أن المملكة تعتبر من أكثر الدول المستقدمة للعمالة بما يؤكد تزايد الفرص الوظيفية في سوق العمل المحلي وعلى الرغم من النمو الاقتصادي الذي سجل تصاعداً خلال السنوات الأخيرة، ورغم الحديث الإعلامي الصاخب عن الحلول والإجراءات التي تتخذها وزارة العمل في هذا الاتجاه إلا أن المشكلة تتفاقم يوما بعد الآخر بل إنه يبدو للمتابع ومن خلال الأرقام المعلنة أن الوزارة لا تعمل شيئا مفيدا ومثمرا لمواجهة هذه المعضلة وتحجيمها، وحينما أقول مفيدا ومثمرا فهذا يعني أنني لا أسلب الوزارة حق العمل والاجتهاد وأحيانا الرغبة الصادقة في الإنجاز، لكن هذا العمل بكل تبعاته المالية والإدارية والإعلامية لا يتجاوز في كثير من الأحيان درجة التجريب والمحاولة وفي أحسن الأحوال إبقاء المشكلة على ما كانت عليه، فالإجراءات والتطبيقات التي لا ينعكس أثرها إيجابياً على أرض الواقع لا يمكن الاعتماد عليها أو الوثوق بها أو حتى التعويل عليها مستقبلاً، فالبطالة التي نتحدث عنها منذ سنوات مازالت عند مستوياتها السابقة، صحيح أن قوة العمل السعودية تتزايد سنة بعد أخرى نتيجة النمو السكاني العالي إلا أن النمو الاقتصادي الذي تعيشه المملكة أسهم في إيجاد وتوليد الكثير من الفرص الوظيفية التي أدت إلى زيادة نسبة الاستقدام في العام الماضي (2006) إلى 60% وفقاً لتصريحات المسؤولين في وزارة العمل.
وقبل أيام أعلنت وزارة الاقتصاد والتخطيط عن أرقام وإحصاءات حديثة عن قوة العمل الوطنية ونسبة العاطلين من الذكور والإناث وكشفت أن معدل البطالة خلال النصف الأول من العام الميلادي الحالي بلغ 11%، وأن حجم قوة العمل السعودية بلغ 4.02 ملايين فرد، والمؤسف أن هذه الأرقام هي جزء من مشكلة البطالة في المملكة سواء من جهة تباينها مع أرقام تقديرية أخرى لمعدل البطالة أو من جهة درجة دقتها وموثوقيتها، فالمعدل الذي أصدرته الوزارة للبطالة يزيد بما يقارب النصف عن المعدل الذي توصلت إليه وزارة العمل قبل فترة إضافة إلى أنه يقل بمقدار النصف عن تقديرات صادرة عن جهات مالية خاصة، في حين يبقى التحقق من دقة الأرقام المعلنة مسألة في غاية الأهمية خاصة أن الوزارة لم توضح الطريقة التي انتهجتها في الوصول إلى هذه الأرقام والإحصائيات..وهل جاءت نتيجة تطبيق منهجية موضوعية تعتمد على استخدام أدوات ومعايير القياس والتحليل العلمي أم إنها مبنية على بيانات متقادمة صادرة عن جهات حكومية أخرى، فمثلاً يقول البيان إن عدد المتعطلين السعوديين هو 445 ألف فرد يمثل الذكور منهم 280 ألفاً.. والسؤال: كيف توصلت الوزارة إلى هذا الرقم خاصة أنه يعبر عن النصف الأول من العام الميلادي الحالي؟ هل قامت الوزارة بإجراء مسوحات ميدانية موضوعية أم إنها اعتمدت على بيانات قوائم الانتظار في وزارة الخدمة المدنية ومكاتب العمل التابعة لوزارة العمل؟ وإذا كان الأمر كذلك فهل هذه القوائم حديثة وتعبر عن الفترة التي يغطيها البيان أم إنها قديمة؟ ثم هل جميع المتعطلين عن العمل من الذكور والإناث مسجلون في هذه القوائم؟
إن الإعلان عن بيانات وإحصاءات حديثة تغطي فترة انقضت قبل أسابيع - كما تقول الوزارة- يمثل نقلة نوعية رائدة في التعامل مع الأرقام ودلالاتها وأهميتها في القراءة الصحيحة للظواهر والقضايا والتحديات، فطالما اشتكى الباحثون والمتخصصون من غياب الأرقام والإحصائيات الحديثة لكن الأهم من ذلك أن تكون هذه الأرقام أمينة في التعبير عن الواقع ودقيقة في تصوير القضية أو الموضوع محل البحث والمعالجة، وبدون ذلك تفقد هذه الأرقام قيمتها بل إنها تتحول من قيمة إيجابية إلى عنصر سلبي يؤثر في المعالجة وإيجاد الحلول. ويبدو أن مشكلة البطالة في المملكة ستظل تراوح مكانها وقد تزداد خلال السنوات القليلة القادمة والأمر في ذلك لا يعود إلى صعوبة في تبني وإيجاد الحلول والإجراءات الكفيلة بتحجيمها، وإنما يعود إلى عدة عوامل تبدأ وتنتهي في القطاعات الحكومية المعنية بهذه القضية،وأول هذه العوامل عدم وجود قاعدة بيانات موضوعية علمية عن قوة العمل بالمملكة يمكن من خلالها إصدار مؤشرات دورية عن معدل البطالة وأسبابها واتجاهاتها.
إن إيجاد الحلول الناجعة لمشكلة تزايد العاطلين السعوديين من الذكور والإناث مهمة ليست سهلة وتحتاج إلى تضافر وتعاضد جهود القطاعات الحكومية المعنية، ولعل أول خطوة في هذا الاتجاه تكون في إجراء مسوحات ميدانية موضوعية مبنية على معايير وأسس علمية تكون الأساس في تكوين قاعدة معلومات دقيقة وحديثة تسهم في تبني إجراءات ومعالجات شاملة لا تقتصر على تنظيمات سوق العمل فحسب وإنما تمتد لتشمل تجويد برامج التعليم العالي وصولا إلى ضمان مخرجات بشرية مؤهلة، إضافة إلى إجراء تطوير حقيقي في هياكل التعليم الفني والتدريب يتجاوز الكم والتوسع العددي إلى تغيير بنية وهيكلية مناهج وبرامج هذا النوع من التعليم الذي يعول على مخرجاته في تغيير خارطة سوق العمل المحلي.
* رئيس تحرير مجلة التدريب والتقنية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق